السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قـبر اليراعات أو " Grave of the fireflies " الفيلم المُقتبس من رواية تحمل نفس الاسم و المُستندة على أحداث عاشها المؤلف أثناء طفولته و الذي تمَّ تقييمه على موقع Rottentomatoes بأعلى تقييم 100% كما تم تقييمه على الموقع العالمي Imdb بـ 8.5 ، اليوم سأقوم بالكتابة عن كل ما يجول بداخلي بعد إنهائي لمتابعة هذا الفيلم العظيم (للمرة الثانية) و التحفة الفنية المقدمة لنا من قبل الأستديو العريق جيبلي و بالتحديد المُخرج الراحل Takahata Isao.
ملاحظة : سأقوم بتقسيم المراجعة لـ 4 أقسام | المقدمة - الكتابة القصصية - الإخراج - النهاية و كل ما مكتوب مبني على رأيي الشخصي فقط (لأن هناك بعض المتابعين لم ينل الفيلم إعجابهم و لهم أسبابهم الخاصة) و بالمناسبة في بداية التقرير لا يوجد أي حرق و عندما أبدأ بالحديث عن أحداث الفيلم سأقول أن هناك حرق ، أتمنى لكم قراءة ممتعة.
الــمقـدمة
هنالك نوع من الأفلام "نوع خاص و نادر" لا تكتفي أحداثه بجعلنا ندخُل في جو من الكآبة لمدة زمنية معينة فقط بل تجعل من طريقة نظرتنا لبعض الأمور التي تحصل حولنا في العالم تتغير 180 درجة و الكارثة هي إن كان الفيلم يتطرق لأحداث مستندة على واقع نعيشه يوميًّا في حياتنا أو أمور لم نكن نلقي لها بالًا نهائيًّا مما يجعلك كلما تتذكره و لو برؤية صورة منه تدخل من جديد في جو من القهر النفسي.
فيلم " قبر اليراعات " يُعتبر بكل تأكيد أحد هذه الأفلام -إن لم يكن هو متصدرها أصلًا- ، أنا شخصيًّا كنت كلما أرى أو أسمع عن هذا الفيلم أتفادى متابعته من عام 2014 و هذا لسبب واحد فقط و هو أنني كنت أعلم -يقينًا- أنه بعد متابعتي له سيصيبني الاكتئاب لمدة زمنية و تابعته عام 2018 و توقعي للأسف لم يكن في محله بل الشعور بالحزن و القهر النفسي الذي خيّم على نفسيتي وقتها كان أكبر بكثير من ما تصورت و ما زاد الطين بلة هو قراءتي لعدة مقالات و مواضيع تتعلق بالحرب و مخلّفاتها لكن على الأقل لم أندم على متابعتي له فبسببه تغيرت نظرتي لعدة أمور تحدث من حولي.
بطبيعة الحال عندما أقول أنك عندما تتابع هذا الفيلم و تكون على علم بأن ما يحصل فيه لا يزال حتى يومنا هذا يحصل في عالمنا ستجد نفسك أثناء متابعته تبكي تلقائيًّا بدون أن تشعر ، ستظن أنني أبالغ في كلامي لكن صدقًا لا يوجد في كلامي أي ذرة مبالغة و ذلك بكل بساطة لأن الفيلم ليس مجرد وسيلة للترفيه على المتابع فقط بل هو عبارة عن مجموعة من الرسائل الإنسانية التي يحملها في طياته يحاول المُخرج إيصالها للمتابعين و يجعلهم يستشعرون الويلات التي يمر بها الأبرياء أثناء الحرب و أبرز رسالة إنسانية يحملها هي أن أطفال أبرياء لا ذنب لهم غير أنهم ولدوا في عالم أصحاب النفوذ و القرارات فيه لا يرون غير مصالحهم الشخصيّة لتحقيق ما يطمحون له و أحد هذه الطرق هي الحروب التي يذهب ضحيتها آلاف الأبرياء و الأطفال.
الــكتابـة القصصـية
القصة تتمحور حول " سيتا " و " سيتسكو " اللذان يعانيان الويلات بسبب الحرب بين اليابان و أمريكا في الحرب العالمية الثانية و كيف سيكون مصيرهما بعد ما حصل لأمهم ، هذه هي القصة بإختصار شديد و هي اعتيادية لكن طريقة سردها كانت أكثر ما ميزها فبداية الفيلم لوحدها كانت كفيلة بشد انتباه المتابع لمعرفة : ماذا حصل ؟ كيف وصل الأمر لهذه الحال ؟ ماذا سيكون مصير الشقيقين ؟ و تستمر التساؤلات في ذهنك ، لذلك البداية تعتبر ممتازة برأيي و رتم الأحداث كان ممتاز و طريقة تسلسلها مريح و سلس.
- لمن لم يتابع الفيلم حرق للأحــداث -
أكثر شيء شد انتباهي و ترك أثر في نفسيتي هي تركيبة الشخصيات القصصية و التي كانت برأيي الشخصي أقوى ركن في هذا الفيلم ، الواقعيَّة في تصرفات الشخصيات كانت من الطراز الرفيع في فن كتابة الشخصيات القصصية و أظن أن هذا أحد الأسباب الرئيسية التي جعلتني أندمج أكثر مع القصة و الأحداث ، مثلًا شخصية " سيتا " هو ابن لضابط في البحرية و من المفترض أن يكون ذو شخصية قوية - حازمة - ذو كبرياء عالي !! و أظن أن هذا ما كان عليه أغلب الشعب الياباني في تلك الفترة فلو عدنا لتلك الحقبة فلم تستسلم اليابان لأمريكا حتى بعدما قامت بقصفها بقنبلة نووية في أكثر المدن حيوية في الدولة ألا و هي هيروشيما !! المشكلة أن هذا الكبرياء كان سبب في خسارة فادحة للدولة وقتها و إذا عدنا للفيلم فقرار سيتا بأن يترك بيت عمته و يذهب للعيش لوحده هو و شقيقته في ملجئ لوحدهما كان نابع من الكبرياء العالي الذي يتمتَّع به سيتا حتى أن " سيتسكو " و التي تعتبر طفلة عمرها لا يتجاوز 4 سنوات قالت له لما لا نعيش وحدنا في هذا الملجئ ؟ و هنا سأمر لنقطة أخرى تزيد من واقعية الشخصيات ألا و هي سذاجة هذا القرار طبعًا كلام " سيتسكو " سيراه الأكثرية بمن فيهم أنا شخصيًّا ساذج نوعًا ما و حتى أن قرار سيتا ساذج كونه أكبر من أخته ! من المفترض أنه يعلم أنهما سيعيشان حياة كارثية و سيعود عليه هذا القرار بسلبية و هذا ما حصل فعلًا للأسف لكن إذا عدنا لعمر سيتا فهو بعمر الـ14 سنة أي أنه ما زال مراهق و كلنا نعلم أن هذه الفترة العمرية تعتبر أكثر فترة في عمرنا نقرر فيها قرارات طائشة تتسبب في مشاكل أخرى تنعكس فيما بعد على حياتنا و هنا يأتي دور الوالدين في تقديم النصيحة و مع ذلك فهناك البعض يتجاهل تلك النصائح و يتصرف بسجيته و يندم فيما بعد على تلك القرارات ، المشكلة أن سيتا فقد أمه و والده على ما أظن وقتها كان ميت كذلك و هنا فقد سيتا كل وجهة تستطيع تقديم المساعدة له في معرفة ما يجب عليه فعله و هنا سأمر مباشرة للتكلم عن شخصية إذا كانت الحقارة في هيئة شخصية فستكون عمتهما !!! البعض سيقول أنني أبالغ نوعا ما بهذا الوصف لكن هذا ما رأيته شخصيا و لا يوجد لدي أي منظور آخر يجعلني أفكر في أن لديها ذرة طيبة واحدة داخل قلبها ، في أول مرة أتى فيها سيتا و سيتسكو للمنزل و أخبرها سيتا بما حصل لهم رحبت بهما و تصرفت معهما بلطف هل برأيكم تصرفت كذلك فقط لأنها طيبة أو حنونة ؟ لا بل لأن والدهما يعتبر جندي في البحرية أي أنه و حسب ما كانت تظنه سيرسل لهم الطعام و العديد من الأشياء ريتما يعود ففي النهاية الجنود يتم معاملتهم معاملة مميزة بما أنهم يضحون بحياتهم لحماية الوطن و بعد أن علمت أن والدة سيتا ماتت نصحته بأن يراسل والده و بعدها أصبحت حقيقتها تظهر ببطئ و هذا مشهد بسيط يوضح ذلك حتى أن نظراتها تجاههم تغيرت تماما و كرأي شخصي -أحقر شخصية آنمي ممكن تشوفها هي هذه الشخصية و أحقر نوع من الناس هم على شاكلتها-
كما قلت سابقًا سيتا ذو كبرياء عالي و هذا الكبرياء كان السبب في موت أخته و موته هو الآخر في النهاية فلو كان شخص راشد سيعلم أنه لا يوجد أي حل غير أنه يعود ليعتذر لعمته ليس من أجله بل فقط من أجل أخته ! فما الفائدة من هذا الكبرياء إذا كانت سيتسكو التي تبلغ من العمر 4 سنوات فقط ستموت بطريقة كارثية ؟ لمن تابع الفيلم و لم يتذكر هناك مزارع كلمه سيتا سابقًا و طلب منه الطعام مقابل المال لكنه رفض هذا لوحده قصة كذلك و لن أتكلم عن منظوري الشخصي تجاهه لأن الموضوع سيطول أكثر ، هو نصحه بأن يعود لعمته و يعتذر لها لكن بما أنك ترى فتاة صغيرة بجانبه تموت ببطئ بسبب سوء التغذية ما المانع من تقاسم القليل فقط من الطعام ؟ أو على الأقل مساعدتهما بطريقة ما للحصول على طعام ؟ كمثال عمل يعمله سيتا !!! طبعا هذا الشيء كان من المفترض من زوج عمته أن يفعله لكن بما أن عمتهم لم تحِن عليهم فما بالك بمن ليس له أي رابط عائلي بينهم ؟ حتى أنه لم يبحث عنهما عندما قررا الذهاب و الخروج من المنزل ، لا أريد الإطالة أكثر في الكلام لكن هناك شخصيات ظهرت في الفيلم تجعلك تتيقّن 100% أن الإنسانية تتجرد من قلوب بعض الناس أثناء الحرب و كل شخص لا يفكر الا في نفسه و لا يهتم بما يحصل للآخرين حوله حتى لو كانوا أطفال أبرياء !! ، فمثلًا هناك طبيب ذهب إليه سيتا ليفحص سيتسكو و قد رأى كيف تعاني سيتسكو و تموت ببطئ بسبب سوء التغذية لكنه يقول بكل برود لسيتا -هذه الفتاة لا تحتاج دواء بل فقط طعام- و كأن الأخير لا يعلم أنها تعاني من ذلك و لم يقدم له و لا أي ذرة مساعدة.
الإخــراج
الإخراج -كرأي شخصي- كان سابق لزمانه فمن يتابع الفيلم و يلاحظ جودة التحريك و الرسـم مستحيل يتوقع بأن الفيلم تم إنتاجه عام 1988 !! عمومًا فهذا شيء مُتوقع من استديو كأستديو جيبـلي ، مصممي الخلفيات و منسقة الألوان قدموا فعلًا أداء مُبهر في عملهم خصوصا السيدة " Yasuda Michiyo " التي نجحت في جعل الألوان متناسقة تمامًا مع أجواء القصة و درجاتها مريحة للعين ، غير هذا فحتى تصميم الشخصيات يتناسب تمامًا مع تركيبها القصصي -إن صح التعبير- و قد كان أداء مصمم الشخصيات بجانب المسؤول عن الموسيقى لا يقل عن رفاقهم مما جعل الإخراج شبه مثالي و هناك شيء أثار إنتباهي هو كمية التفاصيل التي إهتم بها مصمم الشخصيات و المشرف عليها :
مثل هذه التفاصيل الدقيقة جعلتني كمتابع أشعر بالمعاناة التي كان سيتا و سيتسكو يمران بها خصوصًا الأخيرة كونها ما زالت طفلة و قدرة تحملها أضعف بكثير من قدرة تحمل شقيقها ، الموسيقى مستواها كان ممتاز و تناسقها مع نوعية القصة كان رائع بحيث أنها تساهم في جعل الحدث أكثر تأثير على نفسية المتابع و توقيت استعمالها كان نوعا ما جيد لأن هناك أحداث برأيي كان من المفترض استعمال الموسيقى لزيادة تأثير المشاهد على المتابع مثل المشهد الذي وجد فيه سيتا أمه مصابة إصابات خطيرة و ستموت في النهاية بسببها !! و في المشهد الذي أقرّت فيه سيتسكو بأنها تعلم أن أمها قد ماتت و استرجع سيتا ذكريات أمه و هي ترمى مع كومة من الموتى ليحرقوهم و بدأ بالبكاء ، مثل هذه المشاهد مؤثرة جدا و لزيادة مدى الشعور بالحزن لدى المشاهد من المفترض استعمال موسيقى تصويرية لذلك و ليس الاعتماد فقط على كاتب السيناريو و مصمم الشخصيات.
النــهايـة
أكثر شيء أكرهه هو التكلم عن نهاية هذا الفيلم و السبب ببساطة لأنه أكثر جانب بالفيلم مأساوية و سوداوية كما يقهر نفسية المتابع بشكل يستحيل تصوره ففيه نفقد سيتسكو الطفلة الصغيرة التي كانت ضحية الحرب و كذلك شقيقها سيتا الذي يتمتع بكبرياء كان السبب الرئيسي في وصولهم لهذا المصير
هذا المشـهد من الفيـلم :
مهما أعدت مشاهدته بل حتى تذكره فقط يجعل من عيوني تمتلئ بالدموع لا إراديًّا و أجد نفسي أبكي تزامنًا مع سيتا الذي رأى أخته تحتضر أمام عيونه و لم أتوقف عن ذلك إلا بعدما انتهى الفيلم فالمشهد الأخير حرفيًّا كان مأساوي لدرجة مستحيل تصورها ففي نفس المشهد : علم سيتا أن اليابان خسرت الحرب و استسلمت ، علم أن والده قد مات ، أخته ماتت بسبب سوء التغذية أمام عينيه ، استعمال فلاش باك تظهر فيه و هي بكامل طاقتها تلعب و تضحك - حمل سيتا لأخته لقمة الجبل لكي يحرقها بنفسه و يبقى بجانبها حتى تحترق بالكامل ، و هذه هي نهاية الفيلم بكل اختصار و في النهاية مات هو الآخر و اخر كلمة ذكرها هي " سيتسكو ".
و سأختتم هذه المراجعة بكلام ذكره الأخ عمر -المترجم- في نهاية الفيلم و قد أعجبني جدا : إلى الشفاه الذابلة و الأجسام الذاوية... التي قضت عذابا تحت سطوة الحرب و الفقر و اليُتم نرفع الصلاة لأرواحكم الطاهرة و نكفكفُ دموع مآسيكم الغائرة فيمن بقي منكم بيننا... تحننوا على فقرائكم و ارحموا أيتامكم مدوا لهم اليد الحانية و القلوب النابضة بالحب ... قبل أن يُلبسهم الفقر كفن الأجل و ثوب الموت... وردة حب و حنان لكل ( سيتا ) و ( سيتسكو ) في العالم.